الصحة النفسية في عالم مضطرب
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [سورة الفتح، الآية: 4].
اليوم العاشر من أكتوبر من كلّ عام، هو اليوم الذي تحتفي فيه منظمة الصحة العالمية، باليوم العالمي للصحة النفسية منذ عام 1992م، وذلك بهدف إبراز أهمية رفع الوعي بالمشكلات الصحية النفسية وتوفير الخدمات اللازمة لها والرعاية الاجتماعية الشاملة والمتكاملة.
إنّ الاهتمام البارز بالجانب الصحي في حياة الإنسان يتمحور غالبًا حول الصحة الجسمية ومواجهة الأمراض التي تصيب جسم الإنسان، وقد تم إحراز تقدّم كبير في هذا المجال، وهناك مسارات واضحة لمزيد من التقدم على هذا الصعيد عالميًا، رغم وجود نواقص وثغرات.
إلّا أنّ الاهتمام بالصحة النفسية لا يزال ضعيفًا، ولا يرقى إلى مستوى التحديات الخطيرة التي تواجهها المجتمعات الإنسانية على هذا الصعيد، خاصة ونحن نعيش في عالم مضطرب.
ضعف الاهتمام بالصحة النفسية
يشير تقرير (أطلس الصحة النفسية) لعام 2024م إلى أنّ متوسط الإنفاق الحكومي عالميًا على الصحة النفسية، لا تبلغ نسبته إلّا 2% من إجمالي ميزانيات الصحة، ولم يطرأ عليه تغيير منذ عام 2017م[1] ، ويبلغ متوسط عدد عاملي الرعاية في مجال الصحة النفسية على الصعيد العالمي 13 عاملًا لكلّ 100 ألف شخص[2] ، إضافة إلى النقص والثغرات في مجال اعتماد تشريعات مناسبة بشأن الصحة النفسية في معظم دول العالم. رغم أنّ أكثر من مليار شخص في العالم يعانون من الاضطرابات النفسية[3] ، كما تقول بعض الإحصاءات الأممية.
وجاء في رسالة الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام: يعاني واحد من كلّ ثمانية أشخاص على صعيد العالم من اضطرابات الصحة النفسية، على أنّ هذه الاضطرابات تنتشر بين النساء والشباب بدرجة غير متناسبة[4] .
وتدفع الاضطرابات النفسية عددًا كبيرًا من الناس إلى الانتحار كلّ عام، فحسب التقديرات العالمية، شهد عام 2021م 727.000 عملية انتحار[5] .
وبين ضحايا الاضطرابات النفسية الملايين الذين يقعون في فخ إدمان المخدرات، هذه الآفة الفتاكة المدمرة التي تعاني منها مختلف المجتمعات.
الوعي الاجتماعي بمشكلات الصحة النفسية
على الصعيد الاجتماعي لا يزال الوعي بمشكلات الصحة النفسية متدنيًا، وفي معظم الأوساط يعتبر المرض النفسي وصمة، مما يدفع للتكتم عليه من قبل الفرد المصاب والأسرة، حيث يتعامل الناس مع الاضطراب النفسي وكأنه عيب أو عار، لذلك لا يكون هناك سعي للعلاج المناسب عبر المستشفيات والعيادات المتخصصة.
حيث يتردد كثير من المرضى في طلب المساعدة والعلاج، خوفًا من الوصمة والعار، وأن يفقدوا فرص العمل، وعلاقاتهم الاجتماعية إذا أفصحوا عن مرضهم، فتتضاعف معاناتهم من المرض، ومن نظرة المجتمع.
وعند البعض قد تختلق للمرض النفسي تفسيرات وهمية كالحسد، وإصابة العين، وعمل السحر، ومسّ الجن، ويستغلّ الدجالون والنصابون هذا الجهل للإثراء غير المشروع على حساب ضحاياهم.
اتساع رقعة الأمراض النفسية
كما أنّ حالات القلق والاكتئاب ومشاعر الإحباط وانفصام الشخصية، تتزايد أرقامها في مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، بسبب تصاعد وتيرة تطورات الحياة، وما تفرزه من تحدّيات وأزمات، تجعل كثيرًا من الناس خاصة من الشباب والفتيات يشعرون بالعجز والإحباط، وعدم القدرة على مواجهة التحدّي.
وهناك الحروب الطاحنة التي تدور رحاها في أكثر من بقعة من هذا العالم والنزاعات السياسية وضغوط الحياة الاقتصادية، التي تعاني منها كثير من الشعوب، كلّ ذلك أنتج هذه الرقعة الواسعة من انتشار الأمراض والأزمات النفسية.
ومجتمعاتنا الإسلامية جزء من هذا العالم، تتأثر بالأمراض والأزمات السائدة فيه، وتشير دراسة حديثة نشرت على موقع العربية نت بتاريخ 19 ديسمبر 2024م أنه بحسب المسح الوطني السعودي الذي تزامن مع المسح العالمي للصحة النفسية المنظم، من قبل الأمم المتحدة، والذي أظهر أنّ 34% من السعوديين تم تشخيصهم باضطرابات الصحة النفسية، خلال فترة من فترات حياتهم، وأنّ 13.6 فقط من السعوديين يسعون لتلقي العلاج لاضطراباتهم الصحية النفسية، بينما هناك قسم ممن أصيبوا باضطرابات حادة في الصحة النفسية يلتمسون العلاج من رجال الدين والمعالجين غير الطبيين[6] .
وبمناسبة الحديث عن اليوم العالمي للصحة النفسية، يهمنا أن نؤكد على النقاط التالية:
الوعي بأهمية الصحة النفسية
أولًا: ضرورة نشر الوعي بأهمية الصحة النفسية وبرامج تعزيزها، وأساليب مواجهة مشكلات الاضطرابات والأزمات النفسية، فالصحة النفسية لا تقلّ أهمية عن الصحة الجسمية، بل قد تكون أولى بالرعاية والاهتمام؛ لأنّ الأمراض النفسية أشدّ خطرًا على الإنسان وأكثر فتكًا بحياته.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «أَلَا وإِنَّ مِنَ الْبَلَاءِ الْفَاقَةَ، وأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ»[7] .
فالبلاء الشديد وفقًا لأمير المؤمنين علي ، يتدرج بين «الْفَاقَةَ» وهي الحاجة وسوء الوضع الاقتصادي، ثم يتصاعد إلى مرض الجسم، حتى يصل إلى المرحلة الأخطر «مَرَضُ الْقَلْبِ»، ومعلوم أنه ليس المقصود بالقلب هنا العضو الجسمي، فهو داخل في «مَرَضِ الْبَدَنِ»، وإنما هو المرض الداخلي الذي يضرب نفسية الإنسان، وهو أشدّ فتكًا من الأمرين السابقين.
نحتاج في مجتمعاتنا إلى توفير ثقافة عامة للارتقاء بالوعي الاجتماعي نحو تعزيز الصحة النفسية، وأن يتضاعف اهتمام وزارات الشؤون الصحية في بلداننا برعاية الصحة النفسية كجزء لا يتجزأ من الرعاية الصحية العامة، وأن تكون الجهات الصحية المتخصصة هي المرجعة التي يُلجأ إليها لدى حدوث أيّ عرض من أعراض الاضطرابات النفسية.
مخزون القيم الروحية والأخلاقية
ثانيًا: استثمار القيم الدينية والأخلاقية والبرامج العبادية والروحية، لتعزيز الصحة النفسية ومواجهة تحدّيات الحياة، عبر الثقة بالله والتوكل عليه والالتجاء إليه، واستلهام الصبر والثبات وترسيخ الطمأنينة في النفوس.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سروة الرعد، الآية: 28].
وتشير الآية الكريمة ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [سورة الفتح، الآية: 4] إلى أنّ الإيمان بالله تعالى يستنزل السكينة في قلب الإنسان المؤمن، والسكينة من السكون في مقابل الحركة والاضطراب، وهي الطمأنينة والاستقرار النفسي، يستنزلها الإنسان المؤمن من الله تعالى، وبها يتجذر إيمانه ويزداد.
إنّ المؤمن يعيش حالة الرضا والثقة في أعماق نفسه تجاه مختلف الظروف والأوضاع التي تمرّ به في هذه الحياة.
ورد عن رسول الله : «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلَّا للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ»[8] .
وتدفع التعاليم الدينية إلى التخلص من المشاعر والنزعات السلبية تجاه الآخرين، كالحسد والحقد والضغينة وسوء الظنّ، وهي أرضية نشوء معظم الأزمات النفسية في العلاقات الاجتماعية.
كما تدعو التوجيهات الدينية إلى خُلق العفو والحلم والتسامح، إشاعة للأجواء الإيجابية في الوسط الاجتماعي.
الدين وتعزيز الصحة النفسية
تؤكد الأبحاث العلمية المعاصرة على دور الدين والإيمان في تعزيز الصحة النفسية، التي تنعكس على صحة الجسم ومسيرة الحياة.
يقول أحد الباحثين من المتخصصين في الطب: استطعت أن أحضر ندوة حوارية أقيمت في كلية الطب - جامعة هارفرد بعنوان "الدين والطب: هل يمكن مزجهما؟". الندوة كانت بين أربعة متحاورين يديرها أحد الأساتذة في الكلية. كان عدد الحاضرين كبيرًا جدًا، أكثر مما توقعه المنظمون. ولعلّ أكثر ما أثار اهتمامي من هذه الندوة هو عدد الدراسات الهائل الذي أجري عن هذا الموضوع، والتي عرضها أحد المتحاورين في مداخلته. وهذا إن دلّ على شيءٍ، فهو يدلّ على أهمية علاقة الدين بالحياة، حتى في الغرب[9] .
تعزيز الصحة النفسية للأبناء
ثالثًا: لا بُدّ من التأكيد على دور الأسرة، في الاهتمام بتعزيز الصحة النفسية لأبنائها وبناتها، ففي هذا العصر يواجه الفتيان والفتيات تحدّيات وضغوطًا كبيرة، قد تعرضهم لخطر الإصابة بالاضطرابات النفسية، إن لم يتوفر لهم الاحتضان النفسي والعاطفي، فأصحاب السوء والانفتاح على البرامج الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، قد يكون ذلك مبعث خطر كبير، إذا لم يواكبه وعي وتوجيه مناسب.
فهناك مواقع تشجّع على الانتحار وتناول المخدرات، وتدفع للعزلة والممارسات الشاذة.
كما يجب على الأسرة مساعدة أبنائها وبناتها في امتصاص الضغوط الناشئة من البرامج التعليمية أو المهام الوظيفية أو مشاكل العلاقة الاجتماعية.