أول بيت وضع للناس
يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿٩٦﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [سورة آل عمران، الآيتان: 96-97].
في هذه الأيام المباركة، تتجه الأنظار وتنجذب القلوب والأرواح إلى فضاء بيت الله الحرام، حيث تزحف جموع الحجيج، ملبية لله تعالى، مجيبة لأذان أبي الأنبياء إبراهيم الخليل ، تطوف بالكعبة الغراء، وتصافح الحجر الأسود يمين الله في أرضه، وتؤدي مناسكها بشوق وخشوع.
ولكي نروي شيئًا من غليل شوقنا ولهفتنا إلى تلك البقاع المقدسة وأجوائها العبادية المنعشة للأرواح والنفوس، نستحضر شيئًا من الحديث عن عظيم فضل بيت الله الحرام، علّنا نعيش على مستوى الأحاسيس والمشاعر مع ضيوف الرحمن، أجواء هذه الرحلة الإيمانية العميقة.
أول بيت للعبادة
يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿٩٦﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [سورة آل عمران، الآيتان: 96-97].
إنه أول بيت أقيم على وجه الأرض لعبادة الله تعالى، فقبله لم يكن هناك مبنى مشيّد يقصده الناس للعبادة.
ورد عن أمير المؤمنين علي في هذه الآية أنه قَالَ: «كَانَتِ الْبُيُوتُ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ الله»[1] .
وعن ابن شهراشوب عن أمير المؤمنين علي في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ؟ قَالَ: «لَا، قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ، وَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ»[2] .
فهو أول من حيث الأسبقية الزمنية، وأول من حيث الفضل والمكانة.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئًا، وَاخْتَارَ مِنَ الْأَرْضِ مَوْضِعَ الْكَعْبَةِ»[3] .
إنّ المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا أنّ الكعبة تأسست على يدي آدم ، ثم تهدّمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي نوح
، ثم جدّد بناءها النبي العظيم إبراهيم الخليل
، فهي عريقة عراقة التاريخ البشري[4] .
إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾، والرفع هو الصعود والإعلاء، فالبيت كان موجودًا قبل إبراهيم بطوله وعرضه، ومهمته
اقتصرت على رفع القواعد التي انطمست في الأرض، لإظهار البيت للناس.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في دعاء إبراهيم وهو يترك زوجه هاجر وطفلها الرضيع إسماعيل: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [سورة إبراهيم، الآية: 37] وذلك يعني أنّ البيت كان موجودًا، وإسماعيل طفل رضيع، لكنّ القواعد من البيت قد أقيمت بعد أن أصبح إسماعيل شابًا يافعًا يستطيع أن يعاون أباه في بناء الكعبة[5] .
بيت الله لجميع الناس
وقد وُضع للناس جميعهم، لا يخصّ عرقًا ولا قومًا ولا فئة محدودة، بل هو للناس أجمعين، ليتعبّدوا الله تعالى فيه.
وبكة من أسماء مكة، والبكّ هو الزحم؛ لأنّ الناس يزدحمون فيها للطواف حول الكعبة.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ بَكَّةَ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا»[6] . أي يزدحمون.
وقد جعله الله مباركًا، والبركة هي الخير الكثير، الثابت بالنمو والزيادة، مما يشمل البركات الدنيوية والأخروية.
وجعله ﴿هُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ تشع منه أنوار الهداية لجميع البشر، فهو هدى لعبادة الله وتوحيده، والقرب المعنوي الروحي إليه، وهو هدى للالتزام بالقيم والمبادئ السامية، فالطواف حول الكعبة يوحي بأنّ تكون حركة الإنسان متمحورة حول القيم والمبادئ، وتقبيل واستلام الحجر الأسود، توحي بتقديم البيعة لله على طاعته، والصلاة عند مقام إبراهيم، تعزّز الانتماء إلى خطّ النبوة ومسيرة الأنبياء.
وهو هدى للتأكيد على وحدة الأمة، حيث تجتمع في رحابه من جميع البقاع والأصقاع، ومن مختلف الأعراق والأقوام في هيئة موحدة، وتحت شعار واحد، وضمن نسك واحد.
آيات بينات
وهذا البيت ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أي دلائل واضحة على عظمته، في طليعتها ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ حيث وقف قائمًا على تلك الصخرة ليبني الكعبة، وانطبع تأثير قدمه عليها.
و (مَقام) بفتح الميم الأولى يعني مكان القيام، وبضمها (مُقام) يعني مكان الإقامة.
جاء في الكافي عن ابن سنان عن أبي عبدالله [الإمام جعفر الصادق ] في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾، قال
: «مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَامَ عَلَى الْحَجَرِ فَأَثَّرَتْ فِيهِ قَدَمَاهُ»[7] .
فهل ألان الله الحجر تحت قدمي إبراهيم، أو أنّ إبراهيم حفر مكانًا في الحجر على هيئة قدميه، حتى إذا وقف عليه، ورفع يده إلى أعلى ما يمكن، ليعلي القواعد من البيت كان توازنه محفوظًا[8] .
منطقة أمن وسلام
ومن الدلائل الواضحة لعظمة هذا البيت، أنّ الله جعله أرض أمنٍ وسلام، ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وذلك على المستوى التشريعي، حيث لا يجوز لأحدٍ أن يعتدي فيه على أحد، حتى لو كان غريمًا له في قتل أو مال أو عرض أو غير ذلك، بل ينتظر حتى يخرج، هذا إذا كان قد أحدث جريمة في غير الحرم، ثم فرّ إلى الحرم، أما إذا أحدث جريمة في الحرم أُخذ فيه، لأنه أعتدى على حرمة الحرم، فلا يبقى له حرمة فيه.
وفي هذا التشريع إعظام لمكانة البيت الحرام، وتدريب وترويض للنفس الإنسانية على كظم الغيظ، والتحلي بأعلى درجات الصبر، والسيطرة على الانفعالات الغريزية، والنزعة الثأرية تجاه المسيئين والمعتدين.
وحتى في الجاهلية كان العرب يلتزمون بحرمة البيت الحرام على هذا المستوى، فلا يؤاخذون الغريم داخله.
وقد جاء التأكيد على الأمن في البيت الحرام ومنطقة الحرم، في عدد من الآيات، منها ما نقل دعاء إبراهيم : ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [سورة إبراهيم، الآية: 35].
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ [سورة العنكبوت، الآية: 67].
ويشمل الأمن في الحرم حتى الحيوان والنبات، فقد وردت روايات تدلّ على أنه يحرم فيه إيذاء الحيوان وتهييجه وقلع النبات لا سيما على المحرم.
ويقول تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [سورة البقرة، الآية: 125].
والمثابة: الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه مرة بعد أخرى. وقيل مكانًا للثواب، يثيب الله فيه عباده على حجهم وعبادتهم له.
وفي اختيار لفظ المثابة، إشارة إلى أنه مضافًا إلى كونه مقصدًا يقصده المؤمنون في عبادتهم، أنهم يشتاقون إلى الرجوع إليه مكررًا، وهذا من أسرار هذا البيت، وآية من آياته تعالى فيه[9] .
وتشير بعض الأحاديث إلى أهمية تنمية مشاعر الشوق في النفس لتكرار الحج، والعودة إلى بيت الله الحرام، وأن لا تكون أعباء ومشقة الرحلة إلى الحج وأداء المناسك سببًا لضمور الرغبة في العودة والتكرار.
ففي كتاب وسائل الشيعة، باب بعنوان: استحباب نية العود إلى الحج عند الخروج من مكة، وكراهة نية عدم العود وتحريمها مع الاستخفاف بالحج.
وجاء فيه عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ يَنْوِي اَلْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ زِيدَ فِي عُمُرِهِ»[10] .
إنه بيت الله
ومن دلائل عظمة البيت الحرام، أنّ الله تعالى أضافه إلى ذاته عزّ وجلّ، للتشريف والتمييز.
يقول تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [سورة البقرة، الآية: 125].
وحكى تعالى عن النبي إبراهيم إضافته إليه في قوله تعالى: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [سورة إبراهيم، الآية: 37].
مقام إبراهيم
وقد أمر الله تعالى باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [سورة البقرة، الآية: 125]، إرشادًا لفضل تلك البقعة، وإشادة بدور نبيه إبراهيم في بناء البيت الحرام، وقد أثبت له هذا الإنجاز باسمه واسم ولده إسماعيل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة البقرة، الآية: 127].
ليعلمنا تعالى أنه يسجل أعمال المخلصين ويحفظها في التاريخ، كما يثيبهم عليها يوم القيامة.
وفي ذلك تعليم للأجيال والمجتمعات ألّا تبخس حقّ العاملين والمنجزين من أبنائها، بل تشيد بهم وتحفظ منجزاتهم.
وقد شاء الله تعالى أن تشكّل مناسك الحج استحضارًا لشخصية هذا النبي العظيم أبي الأنبياء إبراهيم الخليل ، ليكون أسوة وقدوة للأجيال القادمة، بمواقفه الرسالية، وتفانيه في الخضوع لله تعالى والانقياد لأوامره، مهما كانت شاقة ومؤلمة، وليكون عنوانًا خالدًا لمسيرة الإيمان والتوحيد، يشعر كلّ جيل مؤمن بالانتماء إليه والسير على نهجه.
أعظم بركة ونعمة في الوطن
أيها الأحبة: يجب أن نحمد الله تعالى ونشكره لأننا في وطن باركه الله بوجود الحرمين الشريفين، وذلك موجب للاعتزاز والفخر.
وعلينا أن نحرص على التشرّف بزيارتهما والتعبد فيهما كلّما سنحت لنا الفرصة، وأن نستفيد من بركاتهما المعنوية الروحية، فنكون أكثر التزامًا بالقيم والمبادئ الدينية، وأكثر اهتمامًا بالتقرب إلى الله والسعي إلى نيل رضاه.
إنّ معظم أبناء المجتمعات الإسلامية ينظرون إلى أهل هذه البلاد نظرة محبة وتقدير، باعتبارهم أبناء الحرمين الشريفين وورثة حملة الإسلام، ويتوقعون منهم أن يكونوا نماذج للالتزام بالقيم والمبادئ في سلوكهم وتصرفاتهم.
كما أنّ علينا أن نواكب وندعم الجهود العظمية التي تقوم بها الدولة في خدمة الحرمين الشريفين ورعاية ضيوف الرحمن، وأن ندعو لوطننا بدعاء نبي الله إبراهيم الخليل ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ حفظ الله وطننا من كلّ مكروه وأدام علينا نعمة الأمن والأمان.